فصل: الفصل السادس: كيفيات أغلاط البصر التي تكون في المعرفة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المناظر (نسخة منقحة)



.الفصل السادس: كيفيات أغلاط البصر التي تكون في المعرفة:

كيفيات أغلاط البصر التي تكون في المعرفة بحسب كل واحد من العلل التي من أجلها يعرض للبصر الغلط:
قد تبين في المقالة الثانية أن إدراك مائيات جميع المبصرات إنما يكون بالمعرفة، لأن إدراك مائية المبصر إنما هو من تشبيه صورة المبصر بصورة أمثال ذلك المبصر التي يعرفها البصر. وتشبيه الصورة بما يعرفه البصر من أمثالها هو المعرفة بالنوع. وقد تبين أيضاً أن معرفة الشخص إنما هي من تشبيه صورة الشخص التي يدركها البصر في حال معرفة الشخص بصورته التي أدركها من قبل وهو ذاكر لها. وإذا كان ذلك كذلك فغلط البصر في مائية المبصر إنما هو غلط في المعرفة وهو غلط في نوعية المبصر. وكذلك أيضاً إذا شبه البصر شخصاً من الأشخاص بشخص قد عرفه من قبل وظنه ذلك الشخص بعينه، ولم يكن ذلك الشخص، يكون ذلك غلطاً في المعرفة. والغلط في تشبيه صورة الشخص بصورة شخص آخر بعينه هو غلط في الشخصية. وليس تكون المعرفة إلا بالشخص أو النوع أو بمجموعهما.
ومن عادة البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات أنه في حال ملاحظته يشبه صورته بأمثالها من صور المبصرات التي يعرفها وتكثر مشاهدته لها، ويشبه المعاني التي في المبصر أيضاً بأمثالها من المعاني التي في المبصرات، فيعرف بذلك شخصية ذلك المبصر أو نوعيته أو مجموعهما ويعرف المعاني التي في ذلك المبصر. ومعرفة البصر بجميع ما يعرفه من المبصرات وبجميع ما يعرفه من المعاني المدركة بحاسة البصر إنما هو على هذه الصفة.
وإذا شك البصر في مائية المبصر أو في شيء من المعاني التي يدركها، ولم يعرفه في حال ملاحظته، فإنه يشبهه بأقرب الأشياء شبهاً به مما قد عرفه وألفه. والقوة الحساسة مطبوعة على تشبيه ما تدركه في الحال بما أدركته من قبل، وهذا المعنى موجود في جميع الحواس. ومن تشبيه البصر ما يدركه من المبصرات بما يعرفه من أمثاله، ومما هو مطبوع عليه من هذه الحال، يعرض له الغلط في معرفة المبصر الذي يغلط في معرفته إذا لم يكن إدراكه المبصر على غاية التحقيق. وإذا كان إدراك البصر للمبصر إدراكاً محققاً فليس يعرض له الغلط في معرفة المبصر. وليس يكون إدراك البصر للمبصر إدراكاً غير محقق إلا إذا كان واحد من المعاني التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه خارجاً عن عرض الاعتدال أو أكثر من واحد منها.
فأما كيف يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال فكالشخص الذي يدركه البصر من بعد متفاوت فيشبهه بشخص يعرفه فيظنه ذلك الشخص بعينه ولا يكون ذلك الشخص، فيكون غالطاً في إدراكه ويكون ذلك الغلط غلطاً في المعرفة. لأنه إذا شبه الشخص بشخص يعرفه وظنه ذلك الذي يعرفه بعينه فإنه يظن أنه قد عرفه، وإذا لم يكن الشخص ذلك الشخص بعينه فإنه يكون غالطاً في معرفته، وتكون علة هذا الغلط هو خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال. لأن ذلك الشخص بعينه إذا كان قريباً من البصر وعلى بعد معتدل فإن البصر يدركه إدراكاً صحيحاً ولا تشتبه عليه صورته بصورة غيره إذا كانت المعاني الباقية التي فيه التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال.
وهذا النوع من الغلط كثير ويعرض للبصر دائماً. لأن البصر إذا رأى إنساناً من بعد فربما شبهه بإنسان يعرفه ولا يكون ذلك الإنسان. وكذلك إذا رأى فرساً أو بغلاً أو حماراً أو شجرة أو ثمرة أو نباتاً أو حجراً أو ثوباً أو آنية من الأواني التي يستعملها الناس أو آلة من الآلات، وكانت رؤيته لذلك من بعد مفرط، فإنه ربما شبهه بنظير له قد أدركه من قبل ذلك الوقت، وهو ذاكر له وعارف به، ولا يكون ذلك بعينه.
وكذلك قد يعرض للبصر الغلط من البعد المتفاوت في نوعية المبصر. فإن البصر إذا رأى فرساً من بعد متفاوت فربما ظنه حماراً، لأنه يراه من البعد المتفاوت أصغر من مقداره الحقيقي، وربما ظنه حماراً بعينه إذا كان قد ألف في ذلك الموضع حماراً بعينه، فيكون غالطاً في نوعية ذلك الفرس وفي شخصيته جميعاً. وربما رأى البصر من البعد حماراً ويظنه رساً، ويظن أن صغره إنما هو لبعده. وربما رأى بغلاً فظنه فرساً. وربما رأى ثوراً فظنه حماراً. وربما رأى عنزاً فظنه كلباً. وكذلك أيضاً ربما رأى من البعد شجراً فظنها نباتاً لأنه يراها من البعد صغاراً. وربما رأى نباتاً فظنه شجراً، ويظن أن صغرها هو لبعدها. وربما رأى ثمرة فشبهها بغيرها من الثمار. وربما رأى نباتاً فشبهه بغيره من النبات. وهذا النوع من الغلط كثير، وجميعه غلط في المعرفة لأن البصر يشبه ما هذه حاله بما قد عرفه ويظنه ذلك الذي يعرفه بعينه أو من نوعه، ولا يكون كذلك. وعلة جميع هذا النوع من الغلط هو البعد المتفاوت الخارج عن عرض الاعتدال، لأن البصر إذا أدرك جميع المبصرات من البعد المعتدل فليس تشتبه عليه صورها إذا كانت جميع المعاني الباقية التي فيها التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. وهذه الأغلاط هي الأغلاط المتعارفة التي يغلط البصر فيها دائماً.
وقد يعرض الغلط في المعرفة في معان غريبة أيضاً من أجل خروج البعد عن عرض الاعتدال. فمن ذلك أن البصر إذا رأى في سواد الليل ناراً من بعد نتفاوت، وكانت النار على رأس جبل أو في موضع مرتفع عن الأرض، ولم يكن قد تقدم علم الناظر بأن في ذلك الموضع ناراً، وكانت الجذوة من النار تظهر من ذلك البعد صغيرة الحجم، فإن الناظر إذا رأى النار التي بهذه الصفة بسواد الليل ربما ظنه كوكباً في السماء، وهي نار في الأرض، فيكون غالطاً في مائيتها. والغلط في مائية المبصر هو غلط في المعرفة، لأن مائيات المبصرات إنما تدرك بالمعرفة. وعلة هذا الغلط إنما هو خروج بعد موضع النار عن عرض الاعتدال، لأن تلك النار بعينها إذا كانت قريبة من البصر أو كان البصر قريباً منها لم يشتبه عليه أنها نار، ولم يظنها قط كوكباً في السماء. فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر بالمعرفة من أجل خروج بعد المبصر عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في المعرفة من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يدركه البصر وهو خارج عن سهم الشعاع وبعيد عنه، ويكون البصر محدقاً إلى مبصر آخر، ويكو ن المبصر الآخر مقابلاً لوسط البصر وعلى سهم الشعاع، فإن المبصر المائل عن سهم الشعاع الذي يدركه البصر على هذه الصفة ليس يدركه إدراكاً صحيحاً. وإذا لم يدركه إدراكاً صحيحاً فقد يعرض له الغلط في مائيته. وإذا كان ذلك المبصر إنساناً فربما شبهه في الحال بإنسان يعرفه ويظنه ذلك الإنسان بعينه، ولا يكون ذلك الإنسان. وكذلك إذا رأى فرساً فربما شبهه بفرس بعينه يعرفه، ولا يكون ذلك الفرس. وكذلك ربما رأى على هذه الصفة فرساً فظنه حماراً أو رأى حماراً فظنه فرساً إذا كان بعده عن سهم الشعاع بعداً متفاوتاً. وكذلك ربما رأى شجرة أو ثمرة أو نباتاً أو ثوباً أو آنية فشبه ذلك بما يشبهه في بعض المعاني التي فيه، فربما أصاب وربما أخطأ، لأن المبصر إذا كان خارجاً عن سهم الشعاع خروجاً متفاوتاً فليس يكون بيناً، وإذا لم يكن بيناً فليس يتحقق البصر صورته، وإذا لم يتحقق البصر صورته وشبهه مع ذلك بما يشبهه في بعض المعاني التي يدركها منه فربما عرض له الغلط في تشبيهه.
وغلط البصر على هذا الوجه هو غلط في المعرفة. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن وضع الاعتدال، لأن المبصر الذي يغلط البصر في معرفته على هذه الصفة إذا كان على سهم الشعاع ومقابلاً لوسط البصر، وكانت المعاني الباقية التي فيه بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال، فإن البصر يدركه إدراكاً صحيحاً ولا تشتبه عليه صورته.
وكذلك إذا أدرك البصر مبصراً من المبصرات وكان المبصر على سهم الشعاع أو خارجاً عنه وكان السهم وخطوط الشعاع التي تنتهي إليه مائلة على سطح ذلك المبصر ميلاً متفاوتاً، وكان في ذلك المبصر نقوش دقيقة أو معان لطيفة، فإن البصر لا يدرك تلك النقوش ولا تلك المعاني اللطيفة ويدرك المبصر ساذجاً. لآن المبصر إذا كان مائلاً على خطوط الشعاع ميلاً متفاوتاً فإن صورته تكون مشتبهة غير بينة كما تبين في الفصل المتقدم من هذه المقالة. وإذا لم تكن الصورة بينة لم تظهر المعاني اللطيفة التي تكون فيها، وقد تبين كيف يظهر هذا المعنى بالاعتبار. فإذا أدرك البصر المبصر ساذجاً فإنه يشبهه بأمثاله من المبصرات السواذج التي لا نقوش فيها ولا معاني لطيفة، التي تشبه ذلك المبصر في لونه أو شكله أو هيئته أو عظمه أو مجموع ذلك، فيكون غالطاً في إدراكه ويكون غلطه في المعرفة، لأنه يشبهه بما يعرفه من المبصرات ويظن أنه قد عرفه. وهذا الغلط هو غلط في نوعية المبصر. وعلة هذا الغلط هو خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصر الذي بهذه الصفة إذا كان مواجهاً للبصر وكانت جميع المعاني الباقية التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال، فإن البصر يدرك المعاني اللطيفة التي تكون في ذلك المبصر ويدرك صورة ذلك المبصر إدراكاً صحيحاً ولا يعرض له الغلط في معرفته. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج وضع المبصر عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في المعرفة من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال فكالشخص الذي يدركه البصر في الغلس أو في موضع مغدر ولا يتحقق صورته. فإن كان إنساناً وكان الناظر قد ألف في ذلك الموضع إنساناً بعينه فربما ظن بذلك الشخص الذي رآه في ذلك الموضع انه ذلك الإنسان بعينه الذي يعرفه في ذلك الموضع ولا يكون ذلك الإنسان. وربما شبه الشخص من صورته نفسها من إنسان يعرفه، ولا يكون ذلك الإنسان، إذا لم يتحقق صورته في الحال من أجل ضعف الضوء. وكذلك إذا رأى في موضع مغدر حيواناً غير الإنسان كفرس أو حمار أو غير ذلك من الحيوانات المألوفة فربما شبهه بنظير له قد كان يعهده في ذلك الموضع ولا يكون ذلك الذي شبهه به. وربما شبهه من نفس صورته بغيره ولا يكون ذلك الغير الذي شبهه به. وربما شبه الحيوان الذي يدركه في الموضع المغدر بغيره من الحيوانات التي ليست من نوعه قريباً من نوعه. وهذا النوع من الغلط يعرض للبصر كثيراً إذا رأى المبصر في الغلس أو في سواد الليل ولم يكن في الموضع ضوء قوي. وهذا الغلط هو غلط في المعرفة، لأن البصر إذا أدرك المبصر على هذه الصفة وشبهه بنظير له من الأشخاص التي يعرفها إما بالشخص وإما بالنوع وظنه ذلك الذي يعرفه فإنه يكون غلطه في شخصية المبصر أو في نوعيته الذي هو غلط في المعرفة. وعلة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال، لأن الشخص الذي يدركه البصر في الموضع المغدر ولا يتحقق صورته إذا أدركه في ضوء قوي لم يعرض له الغلط في معرفته، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال.
وأيضاً فإن الحيوان الذي يسمى اليراع الذي يطير في الليل فيظهر في سواد الليل كأنه نار تخطف إذا أدركه البصر في ضوء النهار لم ير فيه شيئاً من النار التي تظهر في الليل. وكذلك الأصداف والأغشية التي تكون لبعض الحيوانات البحرية التي تظهر في الظلام كأنها نار إذا أدركها البصر في ضوء النهار وأدرك تلك الأصداف وتلك الأغشية لم ير فيها شيئاً من النارية. وهذا الفراش يشبه الفراش الذي يطير في الليل حول السراج. فإذا أدرك البصر الفراش الذي بهذه الصفة فإنه ربما شبهه بالفراش الذي يطير حول السراج وليس هو ذلك الفراش. وكذلك الأصداف إذا أدركها في ضوء النهار فإنه يشبهها بالأصداف التي تشبهها التي ليست بنيرة.
وإذا أدرك البصر الجسم النير غير نير وشبهه بغيره من المبصرات الغير نيرة فهو غالط في مائيته. والغلط في مائية المبصر هو غلط في المعرفة. وعلة هذا الغلط هو خروج الضوء الذي في هذه المبصرات عن عرض الاعتدال إذا أدركت بالنهار بالإفراط في الضوء بالقياس إلى هذه المبصرات. لأن هذه المبصرات إذا كانت في الظلام وفي سواد الليل وفي المواضع التي ليس فيها من الضوء إلا ما يظهر على وجه الأرض من الضوء اليسير في الليل فإن البصر يدركها نيرة كأنها نار. والضوء المعتدل الذي به تدرك هذه المبصرات هو الضوء الذي فيها فقط. وإن زاد عليه ضوء آخر فاليسير الذي لا يؤثر في ضوئها كمثل الضوء الذي يكون في الليل على وجه الأرض، فإن زاد الضوء على ذلك زيادة بينة خرج الضوء الذي يحصل في هذه المبصرات عن عرض الاعتدال الذي به تدرك ناريتها على ما هي عليه، ولم يظهر ضوؤها الذاتي لإفراط الضوء الذي يشرق عليها. فعلى هذه الصفات التي شرحناها وأمثالها يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج الضوء الذي في المبصر عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في المعرفة من أجل خروج حجم المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصرات التي تكون في غاية الصغر إذا كان فيها معان لطيفة وأجزاء متميزة وتخطيط في غاية الدقة، وكان البصر لا يدرك المعاني اللطيفة وتلك الأجزاء المتميزة وذلك التخطيط لصغر ذلك ولطافته، أو يدرك بعضها ولا يدرك البعض، ولا يدرك هيآتها، وكان مع ذلك يدرك جملة المبصر مع صغره لأنه أنفس من كل واحد من أجزائه. فإن البصر إذا أدرك المبصرات التي بهذه الصفة ربما لم يتحقق صورها فيعرض له الغلط في مائياتها. وذلك أن البصر إذا أدرك حيواناً في غاية الصغر فربما ظنه غيره من الحيوانات التي تشبهه. ومثال ذلك إذا رأى البصر نملة على حائط أو على بعض الثمار أو على بعض الحبوب فربما ظنها سوسة، أو رأى سوسة على حائط فربما ظنها نملة، أو رأى برغوثاً فربما ظنه سوسة وربما ظنه نملة إذا لم يثب البرغوث في الحال وظل ساكناً، أو رأى بعوضة سوداء فربما ظنها نملة إذا كانت ساقطة ولم تكن طائرة. وكذلك إذا رأى البصر حباً من الحبوب الصغار كالخردل والرشاد وما يجري مجراها فربما ظن النوع من هذه الأنواع نوعاً من أنواع الحبوب التي تشبهه. وأمثال هذه المبصرات كثير كثيراً ما يقع للبصر الغلط في إدراكها.
وإذا أدرك البصر حيواناً وظنه حيواناً غيره، أو حباً من الحبوب وظنه غيره من الحبوب، فهو غالط في إدراكه، وغلطه في هذا المعنى إنما هو غلط في المعرفة، لأن الغلط في نوعية المبصر إنما هو غلط في المعرفة. وعلة هذا الجنس من الغلط إنما هو خروج حجم المبصر عن حد الاعتدال، لأن الحيوان إذا كان مقتدر الحجم فليس يغلط البصر في مائيته إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. وكذلك أنواع جميع المبصرات ليس يعرض للبصر في مائياتها إذا ما كانت مقتدرة الحجم وكانت المعاني الباقية التي فيها التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج حجم المبصر عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في المعرفة من أجل خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر المشف إذا كان شديد الشفيف، وكان لونه مع ذلك لوناً رقيقاً صافياً، وكان وراءه جسم متلون بلون قوي مشرق غير ذلك اللون الذي في الجسم المشف ومن غير نوعه، وكان ذلك الجسم مماساً للجسم المشف. فإن البصر إذا أدرك المبصر المشف الذي بهذه الصفة فإنه يدرك اللون الذي يظهر من ورائه، ويظن أن ذلك اللون هو لون الجسم المشف، إذا لم يكن قد تقدم علمه بلون ذلك الجسم.
وإذا أدرك البصر المبصر متلوناً بلون من الألوان وكان لونه غير ذلك اللون فهو غالط في مائية لونه، ومائية اللون إنما تدرك بالمعرفة، فيكون غلط البصر فيما هذه حاله غلطاً في المعرفة، وتكون علة هذا الغلط هو خروج كثافة المبصر عن عرض الاعتدال. لأن المبصر إذا كان كثيفاً، أو كانت فيه كثافة قوية مع شفيف يسير، فإن المبصر ليس يغلط في مائية لونه إذا كانت جميع المعاني الباقية التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج الكثافة التي في المبصر عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في المعرفة من أجل خروج شفيف الهواء المتوسط بين البصر والمبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يدركه البصر من وراء جسم مشف يقطع الهواء المتوسط بين البصر والمبصر، ويكون لون ذلك المبصر رقيقاً، ويكون الجسم الذي يقطع بينه وبين المبصر ذا لون قوي مع الشفيف الذي فيه كالزجاج المشف القوي اللون وكالثياب الرقاق المشفة المتلونة بألوان قوية. فإن البصر يدرك لون المبصر الذي بهذه الصفة من وراء الجسم المشف ممتزجاً بلون الجسم المشف، فيدرك لونه على خلاف ما هو عليه. فإن كان أخضر وكان الجسم المتوسط كحلياً، أدرك البصر لون ذلك المبصر أخضر. وإن كان أبيض، وكان لون الجسم المتوسط كحلياً، ظهر أزرق. وبالجملة فإن المبصر الذي على هذه الصفة يظهر لونه كمثل اللون الممتزج من لونه ولون الجسم المتوسط بينه وبين البصر. وإذا أدرك البصر لون المبصر على خلاف ما هو عليه فهو غالط في مائية لونه، والغلط هو غلط في المعرفة، وعلة هذا الغلط هو خروج شفيف الهواء المتوسط بين البصر وبين المبصر عن عرض الاعتدال. لأن ذلك المبصر إذا أدركه البصر وشفيف الهواء المتوسط بينه وبين البصر متصلاً لا يقطعه شيء من الأجسام المتلونة المشفة التي فيها بعض الكثافة، أدرك لونه على ما هو عليه إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال.
فأما لم يدرك البصر الجسم المتلون من وراء الثوب المشف ممتزج اللون بلون الثوب المشف، والثوب المشف إنما هو خيوط كثيفة مضموم بعضها إلى بعض، وإنما يظهر ما يظهر من وراء الثوب المشف من أجل أن الثقوب التي فيما بين تلك الخيوط تكون نافذة ومن أجل أن تلك الخيوط دقاق، فقد كان يجب أن يظهر لون الجسم المتلون الذي يدركه البصر من وراء الثوب المشف أجزاء صغاراً متفرقة بحسب تلك الثقوب ويدرك لون الخيوط فيما بين تلك الأجزاء، وإذا أدرك الجسم المتلون والثوب المشف على هذه الصفة أدرك كل واحد من اللونين على ما هو عليه وأدرك اللونين متميزين وغير ممتزجين، وليس يوجد الأمر كذلك.
فنقول في جواب هذا الشك إن الثوب المشف الذي يظهر ما وراءه ليس تكون خيوطه إلا دقاقاً وتكون ثقوبه نافذة، وإذا كانت الخيوط دقاقاً ونظر البصر إلى هذا الثوب فإن الجزء من الخيط الذي يلي ثقباً من الثقوب تحصل صورته في جزء من البصر في غاية الصغر أيضاً، وهذا الجزء يقترن بالجزء الذي حصلت فيه صورة الجزء من الخيط، فيحصل لون الجزء من الخيط ولون الجسم المتلون الذي نفذ من الثقب في جزء ين من البصر مجموعهما بمنزلة النقطة بالقياس إلى الحس. وإذا كان الجزءان من البصر المتجاوران مجموعهما بمنزلة النقطة لم يتميز الجزءان للحس، فيصير الحاس يدرك اللونين اللذين بهذه الصفة من جزء هو في غاية الصغر وغير منقسم للحس. وإذا كان ذلك كذلك صار الحاس يدرك ذينك اللونين من جزء واحد من البصر غير منقسم. وإذا أدرك الحاس لونين من جزء واحد من البصر غير منقسم فهو يدرك اللونين ممتزجين، لأن الحاس إنما يدرك اللونين ممتزجين متى أدركهما معاً من جزء واحد من البصر. فلهذه العلة صار البصر يدرك لون الجسم المتلون من وراء الثوب المشف ممتزجاً بلون الثوب المشف. فهذه العلة التي من اجلها يدرك البصر المبصر المختلف الألوان في الهواء المتصل ذا لون واحد إذا كان بعده عن البصر بعداً متفاوتاً بالقياس إلى كل واحد من الأجزاء المختلفة الألوان. وقد ذكرنا هذا المعنى في الفصل الذي قبل هذا الفصل.
وقد يكون الثوب المشف في خيوطه بعض الغلظ وفي ثقوبه بعض السعة، ويدرك البصر خيوط ذلك الثوب متفرقة ويدرك ثقوبه متفرقة، ومع ذلك يدرك لون الجسم المتلون الذي يظهر من وراءه ممتزجاً بلونه. إلا أن الجسم المتلون الذي يدرك على هذه الصفة ليس يكون امتزاج لونه بلون الثوب امتزاجاً قوياً، بل يكون الذي يمازج لونه من لون الثوب دون ما يمازج لونه من لون الثوب المشف الذي في غاية دقة الخيوط والثقوب. والجسم المتلون الذي يدرك من وراء الثوب المقتدر الخيوط والثقوب إنما يمازج لونه لون الثوب لأن الخيوط لها زئبر دقيق، وكل ثقب من ثقوب ذلك الثوب يعترض فيه زئبر متفرق لتلك الخيوط، ويكون التفرق الذي فيما بين الزئبر في غاية الدقة. فإذا نفذت صورة لون ذلك الجسم المتلون من تلك الثقوب كان في تضاعيفها لون ذلك الزئبر، فتصير الجزاء من البصر التي يحصل فيها لون ذلك الزئبر، فتصير الأجزاء من البصر التي يحصل فيها لون ذلك الزئبر في غاية الصغر، ولون الصورة التي تنفذ فيما بين ذلك الزئبر في تضاعيف تلك الأجزاء الصغار من البصر، فلذلك يظهر لون الجسم المتلون من وراء الثوب المتلون الذي بهذه الصفة ممتزجاً بلون الثوب امتزاجاً ما. والثوب الدقيق الخيوط أيضا ًيكون فيه مثل هذا الزئبر، فيجتمع في الثوب الذي بهذه الصفة صغر الأجزاء التي يحصل فيها لون الخيوط وصغر الأجزاء التي يحصل فيها لون الزئبر، فلا تتميز للبصر هذه الأجزاء، فيدرك البصر لون الجسم المتلون من وراء هذا الثوب ممتزجاً بلونه، ومع ذلك لا تتميز خيوط الثقب لصغرها، ولذلك يكون امتزاج لون هذا الثوب بلون الجسم المتلون الذي يظهر من ورائه أشد من امتزاج الجسم المتلون بلون الثوب المقتدر الخيوط والثقوب.
وأيضاً فإن البصر إذا أدرك الخيال الذي يظهر من خلف الإزار، وكان الخيال أشخاصاً يحركها المخيل فتظهر أظلالها على الجدار الذي من وراء الإزار وعلى الإزار نفسه، فإن البصر يدرك تلك الأظلال من وراء الإزار ويظنها أجساماً وحيوانات تتحرك إذا لم يتقدم علم الناظر بأنها أظلال ولم يدرك الأشخاص التي يحركها المخيل في تلك الحال التي تلك الأظلال أظلالها.
وإذا أدرك البصر الأظلال وظنها حيوانات وأشخاصاً فهو غالط في مائيات تلك الحيوانات وتلك الأشخاص، والغلط في مائية المبصر هو غلط في المعرفة، وعلة هذا الغلط هو خروج شفيف الهواء المتوسط بين البصر وبين تلك المبصرات عن عرض الاعتدال. لأنه لو رفع الإزار الذي يقطع الهواء المتوسط بين البصر وبين تلك الأظلال لأدرك البصر تلك الأظلال أظلالاً ولم يظنها أشخاصاً ولا حيوانات ولم يعرض له الغلط في مائياتها إذا كانت المعاني الباقية التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يعرض للبصر الغلط في المعرفة من أجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في المعرفة من أجل خروج الزمان الذي فيه يدرك البصر المبصر عن عرض الاعتدال فكالمبصر الذي يدركه البصر من باب أو منفذ أو خرق أو موضع مخصوص، ويكون ذلك المبصر متحركاً مجتازاً بذلك الباب أو المنفذ، فيدركه البصر في مدة قطعه لعرض ذلك الباب أو المنفذ فقط ثم يغيب عنه، فيعرض من ذلك أن يكون الزمان الذي يدرك فيه المبصر محصوراً. فإذا كان ذلك المبصر يتحرك حركة سريعة فإن الزمان الذي يقطع فيه المبصر المتحرك عرض تلك المسافة التي يدركه فيها البصر يكون زماناً يسيراً جداً. وإذا كان الزمان الذي يدرك فيه البصر المبصر يسيراً محصوراً فإنه ربما لم يتمكن في ذلك القدر من الزمان من تأمل المبصر تأملاً محققاً. وإذا لم يتمكن من تأمل المبصر تأولاً محققاً فربما اشتبهت عليه صورته ولم يدركها إدراكاً محققاً. وإذا كان لمبصر المتحرك إنساناً فربما شبهه بإنسان آخر يعرفه إذا كان في ذلك المبصر مشابه من ذلك الإنسان الذي يشبهه به ويظنه ذلك الإنسان بعينه ولا يكون ذلك الإنسان. وكذلك إن كان حيواناً غير الإنسان فربما أشبهه البصر بنظير له ولا يكون ذلك النظير الذي شبهه به. وكذلك إن كان المبصر جماداً كثوب أو آنية أو نبات أو ثمر أو غير ذلك من الجمادات إذا اجتاز به مجتاز فربما شبهه البصر بغيره ولا يكون ذلك الغير. وكذلك إن كان البصر متحركاً ولمح في حركته مبصراً من المبصرات وتجاوزه قبل أن يتمكن من تأمله لسرعة حركته، فإنه ربما شبهه بغيره وظنه ذلك الغير ولا يكون ذلك الغير.
وإذا شبه البصر المبصر بنظير له وظنه ذلك بعينه ولم يكن ذلك الذي شبهه به فهو غالط في إدراكه ويكون غلطه غلطاً في المعرفة. لأنه إذا شبهه بغيره ولم يكن ذلك الغير فهو غالط في شخصيته أو في نوعيته. وعلة هذا الغلط هو خروج الزمان الذي فيه يدرك البصر ذلك المبصر عن عرض الاعتدال بالإفراط في القصر. لأن البصر إذا أدرك ذلك المبصر، وكان الزمان الذي يدركه فيه فسيحاً يتمكن فيه من تأمل ذلك المبصر، فليس يعرض للبصر الغلط في مائية ذلك المبصر إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في ذلك المبصر التي بها يتم إدراك المبصر على ما هو عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج الزمان الذي يدرك فيه البصر المبصر عن عرض الاعتدال.
فأما غلط البصر في المعرفة من أجل خروج البصر نفسه عن عرض الاعتدال فكالبصر إذا نظر إلى روضة خضراء قد أشرق عليها ضوء الشمس وأطال النظر إليها، أو نظر إلى جسم مشرق اللون كالأرجواني والفرفيري والصعوي أو ما شابه ذلك وقد أشرق عليه ضوء الشمس، وأطال النظر إليه، ثم التفت إلى مبصرات بيض، وتكون تلك المبصرات في الظل وفي ضوء معتدل، فإنه يدرك تلك المبصرات خضراء إذا كان قد أطال النظر إلى الرياض. وإذا كان قد أطال النظر إلى جسم ذي لون مشرق صبغ أدرك تلك المبصرات التي يدركها من بعده ملتبسة بلونه. وذلك لأن البصر إذا أطال النظر إلى الرياض أو إلى لون من الألوان المشرقة التي قد أشرق عليها ضوء الشمس حصلت صورة تلك الخضرة أو ذلك اللون المشرق في البصر وتلك الصورة ثابتة فيه زماناً، فإذا التفت البصر إلى المبصرات البيض في تلك الحال وتلك الصورة باقية فيه أدرك بياض تلك المبصرات ملتبساً بصورة اللون التي قد حصلت فيه. وإذا لم يكن قد أدرك تلك المبصرات البيض قبل تلك الحال فإنه لا يعلم أنها بيض.
وإذا أدرك البصر المبصرات البيض خضراً أو ذوات لون صبغ فإنه غالط في ألوانها، ومائية اللون إنما تدرك بالمعرفة، فيكون غلط البصر فيما هذه حاله غلطاً في المعرفة، وتكون علة هذا الغلط هو خروج المبصر نفسه عن عرض الاعتدال بالتغير الذي حصل فيه. لأن البصر إذا كان سليماً ولم يعرض له عارض يغير صورته فإنه يدرك ألوان المبصرات على ما هي عليه إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في تلك المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال.
وكذلك إذا عرض للبصر عشاً أو مرض يغير صورته ولم يمنعه ذلك المرض عن إدراك المبصرات بالكلية، فإنه إذا أدرك البصر وهو على ما به من العشا أو المرض فليس يدرك صورته إدراكاً محققاً، ومع ذلك فربما شبه البصر المبصر الذي يدركه في تلك الحال بما يعرفه من أمثاله. وإذا لم يتحقق البصر صورة المبصر وشبهه مع ذلك بما يعرفه من المبصرات التي تشبهه في المعاني التي يدركها من المبصر فربما عرض له الغلط في تشبيهه.
وإذا شبه البصر المبصر بغيره وظنه ذلك الغير ولم يكن ذلك الغير، فهو غالط في شخصيته أو في نوعيته أو في مجموعهما، فيكون غلطه في المعرفة، وتكون علة هذا الغلط هو خروج البصر عن عرض الاعتدال. لأن البصر إذا كان صحيحاً فإنه يدرك المبصرات على ما هي عليه إذا كانت جميع المعاني الباقية التي في تلك المبصرات التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه في عرض الاعتدال. فعلى هذه الصفة وأمثالها يكون غلط البصر في المعرفة من أجل خروج صحة البصر عن عرض الاعتدال.
فقد تبين من جميع ما شرحناه كيف يكون غلط البصر في المعرفة بحسب كل واحدة من العلل التي من اجلها يعرض للبصر الغلط.